بروكار برس- فهد الحوراني- دمشق
جرمانا مدينة من مدن ريف دمشق وتبعد بحدود أربعة كيلومترات عن العاصمة دمشق من جهتها الجنوبية، وتشكل استثناء واضحا عن محيطها ليس بتركيبتها السكانية فحسب، بل لأنها لم تشارك في التظاهرات والنشاطات ضد النظام منذ بداية الثورة في 2011، لكن كل هذا لم يمنع النظام من الامعان في إذلال وافقار أهلها الذين يعانون كما باقي المناطق.
رحلتي لاستقصاء أوضاع المدينة، لم تتجاوز ربع ساعة بالسرفيس من باب شرقي، ومع الغوص بكثير من التفاصيل يكبر التحقيق الصحفي مع قصص غريبة وأوجاع أكثر غرابة.
شوارع محفرة وقمامة متراكمة
أرصفة مكسرة تحتلها السيارات الكثيرة، وحفر متنوعة الحجم في الطرق، أوساخ وقذارة في الشوارع، وحول حاويات الزبالة الممتلئة.. حتى أمام المطاعم المنتشرة هناك بشكل كبير، ولا رقيب عليها أو حسيب.
ناهيك عن ورشة البناء التي لا تنتهي... فبعد بداية الثورة السورية عام2011 غضّت البلدية في جرمانا طرفها، عن الكثير من المباني غير المرخصة والعشوائية، ثمناً رخيصاً لصمت أهل جرمانا وعدم خروجهم بمظاهرات ضد السلطة آنذاك.
باعتبار أن سقوط مدينة جرمانا، بأيدي المعارضة المسلحة آنذاك هو سقوط العاصمة دمشق بالمفهوم العسكري والنفسي..
لكن ذلك لم يحمِ المدينة ذات الأغلبية "الدرزية" في العقود الماضية، من القذائف الكثيرة والتي كانت تسقط من الريف المجاور لدمشق على حسب زعم السلطات، ونفي المعارضة المستمر.
ماجد سائق السيرفيس الذي كنت أجلس إلى جانبه في رحلتي إلى جرمانا، بشّرني بعودة العتمة إلى ليل جرمانا، وذلك بعد اعلان أحد المسؤولين في شركة الكهرباء، عن بداية ساعات التقنين، حتى قبل بداية الشتاء القارس، بحجة زيادة الاستجرار للكهرباء.
طوابير غاز من لعنات الامبريالية
يتحدث ماجد عن الازدحام الشديد في شوارع جرمانا، بسبب ضيق الشارع الرئيسي فيها، وهو يشير باصبعه، إلى طابور من الناس بعد ساحة الرئيس التي يتوسطها تمثالٌ نصفيٌ، للرئيس "الخالد" حافظ الأسد، وهو يدير ظهره لذلك الطابور من الناس الذين ينتظرون سيارة الغاز منذ أكثر من ثلاث ساعات، بحجة أن هناك جرداً في سادكوب قبل نهاية العام، ما تسبب في هذا النقص الحاد، والمزعوم في كمية جرار الغاز، المستجرة...
يضيف ماجد لقد ارتفع الدولار بشكل جنوني هذا اليوم، وزادت أسعار زيوت المحركات وقطع الغيار لسيرفيسه المتهالك، مع بقاء أجرة الراكب50 ليرة سورية فقط، يتحدث ماهر عن زيادة الرواتب الأخيرة لموظفي القطاع العام بحسدٍ وغيرة، دون أن يعلم أن الثلج ذاب عنها وتقلصت بسرعة بعد أن أكلت الضرائب نصف الزيادة الجديدة تقريباً، وجشع التجار، طيّر نصفها الآخر، ما جعل من "المكرمة" الأخيرة للسيد الرئيس مجرد غيمة صيف، ونكتة قديمة وممجوجة، وربما "نقمة"
السائق الذي يتابع أحاديث الركاب، انفتحت شهيته للكلام، ومضى بالقول: لقد أغلق التموين عدة محلات تجارية في جرمانا، في اليومين الأخيرين. قاطعته بسرعة :محاولة مراقبة ارتفاع الاسعار، هي محاولة بائسة، ومسرحية رديئة ، تخرجها الحكومة لإخفاء شلل الاقتصاد المتهاوي.
وبانتظار جرة الغاز يجلس أبو مجيد الرجل السبعيني على أحد الاطارات الكبيرة.. يشتم أمريكا بحدود عشرين مرة محملاً اياها كل هذا الاذلال. لقد سرقوا نفطنا وغازنا أولاد الحرام، ويحدث الرجل العجوز أحد الشباب الجالسين معنا عن بطولات الضابط السوري جول جمال وكيف استطاع شطر مدمرة فرنسية إلى قطعتين أثناء العدوان الثلاثي على مصر.
سننتظر حتى التاسعة والنصف، إذا لم يأت الغاز لنا الله ... يستطرد الرجل العجوز.
بعد ساعتين من الانتظار رحل أبو مجيد بخفي حنين، فسيارة الغاز لن تحضر اليوم.
عند ساحة الرئيس تركت المنتظرين لجرة الغاز ودخلت إلى مكتب أبو المجد أحد مخاتير جرمانا الذي استطاع أن يهرب بأولاده من الحرب، إلى دولة إمبريالية لم تمسح عن الخريطة وصارت فردوسا للسوريين الهاربين من الموت، لكنه يزورهم من حين لآخر بعد أن حصل على إقامة دائمة هناك، فهو لا يستطيع المكوث هناك من دون عمل.
يقول المختار إن هناك أكثر من مائة عقد اجار جديد في جرمانا كل يوم، انهم من المهجرين في الريف الدمشقي بالإضافة إلى الكثير من أهل دير الزور والرقة .. لقد جلبوا الكثير من المال من أبار النفط التي وضعوا ايديهم عليها بعد غياب أي وجود حكومي هناك وبقاء الأمريكيين هناك، ولقد استطاعوا شراء الكثير من العقارات الغالية الثمن في جرمانا.
تصور يا رجل خمسمائة جندي أمريكي يحتلون آبار النفط هناك، يضحك المختار بحزن، إنها لعبة الأمم.
لا أحاول مناقشة ابو المجد كثيراً، هو يعرف الحقيقة جيداً، لكنه يريد الاستمرار في العمل في مكتبه، فالمخاتير في سوريا معروفون بارتباطهم بأقسام الشرطة، وفروع المخابرات الكثيرة.
أصبحت جرمانا بعد عام2003، والاحتلال الأمريكي للعراق، وسقوط بغداد ملجأً لأهلنا في العراق الهاربين من الموت هناك، بعدما استقبلت سابقا الفلسطينيين، والطامحين إلى رغد العيش بالقرب من العاصمة بدلا من الأرياف الفقيرة.
سوريا الصغيرة بلمحات أسى عراقي
آلاف العراقيين سكنوا في جرمانا، في محاولة خفية، ربما، من النظام لكسر خصوصية هذه المدينة التي تتميز، بغالبية درزية، إلى جانب الكثير من المسيحيين، الذين وجدوا فيها آنذاك مكاناً معقولاً وقريباً من مدينة دمشق.
بعد التاسع من من نيسان2003، انتهت هذه الخصوصية الديموغرافية الأمر الذي فرض ارتفاعاً جنونياً في أسعار الإيجارات، خاصة مع الوفرة المادية التي تميز بها العراقيون الفارون من نار الحرب، والذين جلبوا معهم الكثير "دفاتر" الدولارات، الأمر الذي أثر بشكل سلبي، على حال السوريين الفقراء ومحدودي الدخل أساساً.
أمر استدعى أن يستأجر بعض السوريين شققاً بدون اكساء "على العظم" كما يحلو للسوريين تسميتها وذلك طمعا بإيجار مقبول.
وفي المدينة تعمل المطاعم حسب كل الأذواق، وتسمع الأذن أغاني عراقية وفلسطينية وكل مناطق سوريا.
تدخل إلى أحد محلات تزيين الشعر امرأتان من بنات الليل، بعد أن استفاقتا من نوم متأخر بعد ليلة طويلة في أحد الملاهي الليلية المنتشرة بشكل كبير هذه الأيام.
أسئلة كثيرة تخطر على البال عن عوالم هؤلاء النساء، الخفية وما تخفيه من أوجاع وأحزان ويتم، وبيع الأوهام والأكاذيب في بلاد منسية.
مياه جرمانا لا تصلح للشرب، مما يضطر أهلها الى شراء مياه الشرب من صهاريج مرخصة، ربما هي غير صالحة للشرب أيضاً.
جرمانا هي المدينة المنسية، لا تشبه من المدينة شيئاً.. كانت جزءا من الغوطة الخضراء. وهاجمها شبح الأسمنت الأسود.
جرمانا أو سوريا الصغيرة بعد أن سكن فيها مواطنون سوريون، من كل المحافظات إلى جانب الفلسطينيين، والعراقيين، لكن المهجرين من الريف المدمر حول دمشق بفعل الحرب الكارثية، منذ تسع سنوات، فلهم النصيب الأكبر من المساكن فيها.. حتى لو كانت "على العظم" ..
الناس طبقات، أهل دمشق بنظر السلطة درجة أولى فهم يحصلون على ضعف الكمية من المازوت المقنن، أما أهل جرمانا فلهم نصف الكمية من الدفء. وهذا ينسحب بالطبع على كل الريف السوري الأكثر برداً، في فصل الشتاء.
نصيب أهل دمشق من العتمة أقل بكثير من نصيب أهل جرمانا من الظلمة، ولهم الكثير من الظلم، كحال أهل الريف.
فقد بات واضحاً أن حكام دمشق، أرادوا الانتقام من أهل الريف، السوري بالعموم، الذي انتفض في وجه النظام عام2011، ليبقى أهل المدينة متفرجين، على استحياء، من بعيد وبمعونة من المنتفعين منهم، استطاع دكتاتور المهاجرين وأد الثورة، بالدم والعنجهية..!
فقامت الحكومة بالاستمرار بافقار أهل الريف وجعلهم يدفعون الثمن مجدداً، بالإضافة إلى خسارة بيوتهم وأعمالهم. هي القاعدة السارية منذ بداية حكم البعث: علينا إفقار السوريين والتلذذ بإذلالهم .. وبسادية مفزعة، لعلهم ينسون طعم الحرية إلى الأبد.
أبو حسين صاحب محل الخضار والفواكه هو من دير الزور جاء مهجراً من هناك بعد دخول داعش لقريته..يقول الرجل الستيني: الناس تعبت من كل شيء، وكان أكثر حظاً من وجد له مكانا في سفينة مهاجراً إلى أووربا، أو حتى الى الاردن او كندا.. أو حتى الى جهنم.
الناس لم تعد تستطع شراء حتى الخضار والفواكه، كيلو البطاطا صار بـ 350 ليرة، أما كيلو التفاح الجيد فسعره 600.
ويفشل البائع المتمرس في اقناع أحدهم بشراء التفاح رغم صراخه: ارجع خذ التفاح، سوف أراعيك قليلا.. ولكن لا حياة لم تنادي.
تهميش الريف وفقدان البناء الحضري
بات من نافل القول أن سوريا لا تملك بالأصل بنية مدنية، وحضرية، أو حتى مدناً بالمعنى الحقيقي للمدينة.
كذلك فإن غياب مجتمع مدني عن المشاركة في الثورة السورية، الأمر الذي يستدعي عدم وجود معارضة سياسية قادرة على حمل هذه الصفة على الأقل.
صار أكيدا، أنه يمكن التشكيك بشدة بوجود مدينة. في سوريا بالمعنى الحضاري، مع التشكيك أيضا بوجود مفهوم الريف، من ناحية الإنتاج الزراعي . فقد أصبحت مساهمة الزراعة من الإنتاج المحلي السوري، لا تتجاوز 17.6 بالماىة، بعد أن أصبح الفلاحون أقلية غير مؤثرة، في سوريا.
ملخص القول حسب قول أحد المحللين الاقتصاديين: لا بنية زراعية قوية في الريف، ولا بنية تحتية صناعية في المدينة.
هي حال مجتمعنا السوري الذي بات يعيش الأوهام، سياسة حكومية تنموية فاشلة، وانتاجية ضعيفة وغياب أي خطط إنتاجية شاملة وانقاذية.
لنكن اكثر واقعية، ربما هذا الفشل التاريخي لا يتحمله النظام السوري وحيداً..
فرثاثة مدننا وهشاشة التخطيط بدأت بشكل مؤكد منذ الاستقلال في 1946، مرورا بحكم البعث منذ 1963 .. حتى وصول حافظ الأسد إلى الحكم حتى هذه اللحظة المأساوية، والأكثر هشاشة، وبؤساً واستلاباً للهوية والوطن. يختم الخبير الاقتصادي الذي لم يرد كشف اسمه:
مدننا المنسية أو الآيلة إلى الموت كثيرة دمشق .. وحلب ...درعا، حمص،.. وادلب المنسية إلا من حقد الطائرات الروسية ولهبها، وبراميل النظام، ووحشيته.
بانتظار الضوء القادم لا محالة من بيروت، وبغداد، جرمانا تعبر بهدوء من العتمة إلى، العتمة، لأن ساعات التقنين صارت ثلاث ساعات من التغذية مقابل ثلاث ساعات، انقطاع .. وعلى مدى اليوم كله .. بانتظار ربيع آخر بعد أشهر قليلة.
..........
هامش:
ربما تناسيت الحديث عن، عصابات توزع المخدرات والحشيش في الخفاء، والعلانية، للشبان العاطلين عن العمل في جرمانا. وبحماية مفضوحة من بعض الجهات الأمنية، الى جانب مايطلق عليهم، عناصر الدفاع الوطني.